أخبار سياسية - اقتصادية - فنية - رياضية - عربية - دولية

قصة/دقات

قصة/دقات

بقلم / هاله السيد

 

في غرفة صغيرة في أحد الفنادق الشعبية المنتشرة في حواري القاهرة أختفي واخفي معي كل همومي ، الاختفاء من العالم شيء رائع حقاً أن تختفي داخل غرفتك فلا يعلم أحد عنك شيء أن تتوارى عن أنظار العالم أن تمر عليك الأيام في سلام لا تأذيني ولا أجرح أحدهم بدون قصد أو بقصد.

 

هنا أنا بعيد عن العالم أرتاح من تعب السنوات الماضيه أقضي الساعات والايام في سلام هنا لا أجد صديقاً إلا دخاني يحاوطني دائماً ويحملني إلى سماء بعيدة .

 

ظل هاتفي مغلق لليوم الثالث على التوالي هذه هي الحرية التي أردتها دوماً ….

أمارس الحرية كما يجب أن تكون لم أعد أعرف نور الصباح, يبدأ يومي مع غروب الشمس و اصاحب القمر حتى يمل مني ويختفي لتخلفه أضواء خافته للشمس وانا في الشوارع وبين دخاني لا أمل الشوارع ولا الوحدة ولا الجدران ولا التبغ ..

 

اليوم الرابع ……

الحريه تتبدد تحت إحساس الملل الذي بدء بتغطية المكان تماماً مثل نور الشمس حين يمحو أثر الليل الرائع من الشوارع، سأتمسك بالحرية مهما كان الثمن ، سأقاوم نور الشمس بكل ما ادأحمل من هواء الليل البارد..

اليوم الخامس..

فتحت هاتفي لأتاكد أن والدي يبحث عني و يترجاني للعودة و سادأرسل لأصدقائي لأطمئنهم لابد أنهم يبحثون عني في كل مكان ، الحقيقة لم يرسل إلي أصدقائي لكن وصلتني عشرة رسائل من أمي ورسالة وحيده من أبي “ارجع يا احمد بالله عليك” …”يغلق الهاتف مجددا”

اليوم السادس..

ذهبت إلى صديق لي أكبر مني سناً بخمسة عشر عام تقريبا “حسن”، كنا نسهر سوياً فيما مضى قبل أن يترك مدينتنا ويرحل إلى القاهرة كنتٌ في الخامسة عشر حين تعرفت عليه كان يٌعرف عنه المرح وخفة الظل وكان وسيماً حسن المظهر…. حسناً يبدو أن الأيام أقسي مما أتخيل ….

” أين إختفيت كل هذه المدة يا حسن لقد إشتقت لسهرتنا سويا” أقولها ضاحكاُ أعلم أنه لم يعد ذاك المرح فملامح وجهه أصبحت قاسيه كأنها تبدلت

 

رد صديقي الذي إبتسم عندما تذكرني ولمعت عيناه بفرحة عاود بعدها عبوسه كان أشبه بسجين فرح في ساعة الزيارة برؤية أهله لكنه تذكر أنه مازال سجين..

 

“أتعلم أنا أيضاً اتسال أين إختفيت ….. كنت أقلب في صوري القديمة رأيت الكل أمي ، أصدقائي، زملائي و كل شيء إختفى الآن ورحل زرته مجدداً في خيالي ومن بعض الصور … أتعلم تعلقت عيني بصورة التقطت يوم خطبتي أمعنت النظر في الصورة وبعدها نظرت إلى زوجتي تحمل نفس ملامح الصورة ولكنها ليست هي كأنها تاهت منها ، بعدها وقفت أمام المرآة كانت نفس الملامح موجودة ولكني لم أعرف أين اختفيت ….. أهرول إلى الحمام لأدخن ويمتلئ الجو حولي بالدخان أريد أن أعود يا صديقي ولكن عندما تصل إلى الأربعين مثلي ستعلم أن كل آمالك بالعودة إنتهت فقط ستدفن وجع رحلتك في الدخان ستنفخ وستتمنى لو تصعد روحك لأعلى مع الدخان ولكن هيهات يا صديقي.”

 

“.. مازلت صغيراً لتتحدث بتلك النبرة أتذكر حين كنت تقول أن أمثالنا لا يكبرون بمرور الأعوام … كنا نتباهى أن قلوبنا تحب الحياة وامثال تلك القلوب لا تشيخ … أين ذهب قلبك صديقي كيف إستطاعت الدنيا أن تسرقه؟…”

 

…ذهبت محاولاتي هباءاً في إستخراج ضحكة واحدة منه ، في الحقيقة كنت أود أن أضحك أنا … ولكن لابد أنني زرت الشخص الخطأ

تركته ورحلت وكنت أفكر فيه ..كان مثلي الأعلى يوماً ما.. لا أنسى أنه علمني التدخين وجعلني أحب الحرية بعد أن رأيته يعيشها .. لا لا لا يجب أن أستجيب لتلك الأفكار لقد أضاع حريته بالزواج …. إذا لن أقع في نفس خطاءه…

اليوم السابع..

إستيقظت في الخامسة تناولت طعامي واخذت كوب الشاي والسيجارة وجاورت النافذة ، مراقبة المارة مملة أختفي وراء شباكي من المارة واختفي خلف دخاني من مشاعر الاشتياق التي تجتاحني لأمي لم يكن إشتياق بقدر ما يمكن أن نسميه قلق …

العاشرة مساءاً لم أعد اتحمل الجدران ، هذا وقت مناسب لخفاش مثلي أن يبدء بالتجوال أرتدي ملابسي السوداء وساعتي الفضيه محفظتي وبطاقتي الائتمانية وعلبة السجائر ، في الحقيقة الساعة التي تلازم يدي متوقفة منذ أكثر من شهر في الحقيقة لم تشغلني حركة عقاربها يوماً ..

أتحرك في الشوارع والطرقات وتتحرك بداخلي كلمات حسن الكئيبة أشغل نظري بتلك الأضواء هناك وهذا المحل وضوضاء الشارع وجمال فتاة أجنبية تسحرك بنظرتها واتحرك أكثر وانتقل من طريق إلى آخر والدخان لا يكف عن الخروج من فمي ، حسن أراه بجواري بائس حزين

الحياة أروع من نتركها يا حسن هناك جمال لم نذقه والوان لم نرها وانواع مختلفة من المخدرات نحرقها لتحملنا إلى سماء أخرى لا يسكنها غيرنا … أما الأهل والتقاليد فهم باقين إلى نهاية عمرنا هم أشياء ثابتة لا تتغير ، فقط العمر يتغير كل يوم ينتهي لا يعود، ماذا سيتبقى بعد فوات الأيام غير تلك اللحظات التي نحياها كما نشاء نفعل ما نريد وننتقل من سيجارة إلى أخرى ومن أرض إلى سماء ومن زحام مدينة إلى فضاء قرية كل ذلك وتعود آخر الليل لتنام على سريرك ، لأي هباء تركت كل هذا يا حسن…!

توقفت فجاءة شيء ما أصابني أخرجني من تفكيري وجذبني إليه بقوة ثم تركني فلا أتذكر ماذا كنت أفعل ولا أستوعب ما حدث كل ذلك بعد أن نظرت إلى عيناها هذا جمال قدسي لا يعاب عينان خضروان كأغصان الزيتون وبياض الثلج أو حرير ناعم لا أحدد ، فقط أنا مفتون…

 

أكمل طريقي ولن أتوقف أعلم نهاية الحب هذا لست أحمق كحسن ولا أريد أن أكون أباً كئيب مثل أبي لا أود أن العب هذا الدور على الرغم أنني أفضل أن أملك شخصاً يحبني مثل أمي ولكن لن يحبني أحداً غيرها ولن يفعل أحد ، حقاً اني أشتاق اليكي …

تعلقت عيني بأحد المحلات الساعات المجاورة ،قديم ،ضيق، ممتلئ عن آخره استشعرت التعب فدخلت سأبدل حجارة ساعتي وسأرتاح قليلاً

جلست وامامي جدار لا يتجاوز طوله الثلاثة أمتار وارتفاعه قد يصل للخمسة أمتار وعلقت عليه ساعات مختلفة الأشكال والانواع لم أستطع عدها ولكن منها القديم ومنها الحديث منها الخشبية والفضية وكبيرة الحجم والمتوسطة والصغيرة كان المشهد رائع من هنا جميعهم يعملون في تناسق حتى العجوز الذي إنكب على ساعتي كانت يديه وادواته دقيقة كحركات تلك الساعات المتناسقة..

 

ذكرتني تلك الفتاة الجميلة بأمي لما أبحث عن الحب وقد تجسد فيها …أخرجت هاتفي وفتحته ، وراح نظري يطوف بين الساعات المعلقة كلها تحسب نفس الدقيقة وصوت أم كلثوم من الراديو الصغير يجعلك تنسى حسابات تلك الساعات هذا ما أعنيه بان بالهروب..

 

بدأ هاتفي بالاهتزاز توالت الرسائل الواحدة تلو الأخرى

لابد أن أبي تذكر أن له إبن

“..لا أريد أن أراك مجدداً ، أدعو أن تنال غفرانها من سجائرك واصدقائك…”

ماذا…!

“… أين أنت لقد كانت دفنة مهيبة ولكن أين ادأنت ..”

ماذا حدث…..!

“….. أخي أمك مرضت أكثر وتفقد الوعي أكثر مما تفيق وكلما عاد وعيها نادت عليك….”

أمي….!

“….. أخي شريف لقد ماتت ، على الأقل يجب أن يحملها إبنها إلى مثواها ، لاتتركها …”

 

تسارعت دقات قلبي والتحمت الأصوات صوت أم الكلثوم و ضوضاء الطريق وانا ملقي على المقعد الخشبي لا أتحرك ..

إنقطع التيار الكهربي لتسود حالة من الهدوء في الخارج …

 

وليسود المحل حالة من الصخب سببته الساعات الساكنة دقاتها أصبحت كأنها تتسابق ويكأنها تدق على قلبي فتجعله يرتجف أصبحت العقارب أسرع مما أتخيل أسرع من أنطق كلمة إعتذار للوحيدة التي أحبتني بصدق!

 

العجوز- حمد لله لقد إنتهيت قبل إنقطاع الكهرباء ، حافظ على تلك الساعة يا فتى إنها غالية الثمن لأنها دقيقة …. يا أستاذ ….. لقد توقف نبضه …………………لا إله إلا الله…..!

“تمت ”

قصة/دقات